المادة    
قال رحمه الله: [والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً.
ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع]
.
إذاً: هما قضيتان: قضية مرتكب الكبيرة، وقضية شمول اسم الإيمان للعمل أو عدم شموله، فإذا أخذنا الموضوع من هذه الزاوية نقول: الخلاف هين، وفي الحقيقة أن المسألة لها أصل تاريخي، ودائماً تاريخ أي فكرة أو أي مبدأ يعينك على تصوره وعلى معرفة حقيقته، وأصل المصيبة والبلية إنما حدثت في موضوع الإيمان من الخوارج الذين يكفرون المسلمين المؤمنين بمجرد ارتكاب المعصية، مع بقائهم على التوحيد وعلى الإيمان، فـالخوارج كانوا يقولون: هذا كافر، ويعنون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلم يكن الخلاف فيمن ارتكب الكبيرة من عامة الأمة، أنه شرب خمراً، أو زنى، أو فسق، إنما يعنون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فيظلمونهم وينسبون إليهم الذنب والكبيرة، مع أنه قد يكون وقع منهم، كالقتال مثلاً، لكن ليس كبيرة عندهم إذ إن كلاً منهم قاتل على تأويل أو اجتهاد، لكن هم ينسبون إليهم الذنب ويزيدون فيقولون: هذا الذنب كفر، إذاً هم كفروا، فمنشأ الخلاف في الأسماء والأحكام الذي أصبح فيما بعد يعرف بمباحث الإيمان أو مباحث الأسماء والأحكام هو ما حكم مرتكب الكبيرة؟ فالذين نظروا فقط إلى هذا الأصل التاريخي قالوا: الإمام أبو حنيفة رحمه الله إنما قال: إن الأعمال لا تدخل في الإيمان؛ حتى لا يوافق كلام الخوارج ، فلذلك يقول لهم: الإيمان أن الإنسان يصدق بقلبه ويقر بلسانه، أما أعمال الجوارح فهي ليست داخلة في حقيقة الإيمان، وإنما هي لوازم وثمرات ومطلوبة كما بين الشيخ فيما بعد، ولذلك نعلم ونعتقد -حتى الحنفية المرجئة - أن الله أراد منا الإيمان والعمل، أراد منا التصديق وأراد منا العمل وطلبه، ويعتقدون أن الله تعالى يثيب العامل عمل خيراً، ويجازي العامل عمل سوءاً أو شراً، وهذا معلوم لا نخالف فيه، فلذلك يقولون: نحن نتخلص من مذهب الخوارج ونقول: إن العمل غير داخل، أما أن تكون الأعمال من لوازم الإيمان، وأن هذا الرجل مرتكب الكبيرة في الآخرة تحت مشيئة الله، وأنه غير خالد في النار، فهذا كما يقول أهل السنة والجماعة ، وكأن الخلاف إذاً: الخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة كافر في الدنيا، خالد مخلد في النار في الآخرة، وأهل السنة يقولون: هو في الدنيا صاحب معصية، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله، فإذاً كأنهم يقولون - المرجئة الفقهاء -: نحن، وأنتم معشر السلف نتفق في موقف واحد، وهو تكذيب ودحض والرد على عقيدة الخوارج .
إذاً إذا نظر إليها باعتبار المآل، أي: باعتبار النهاية في الآخرة، فإنه يتفق المذهبان: المرجئة الفقهاء ، و أهل السنة والجماعة ، إذ إنهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة في الآخرة، إذاً اتفق القولان، فمن نظر إلى هذا فقط قال: إذاً الخلاف صوري أو لفظي، والأمر هين والخطب يسير، وهذا هو الملحظ الذي لحظه أولئك فقالوا به، وقلنا: هذا القول ينفع في الرد على الحنفية، فيقال لهم: إذا كان الخلاف فقط في هذا، فهذا بسيط، لكن يلزمون بعد ذلك بأن لا يبتعدوا كثيراً عن مذهب السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، لكن في الحقيقة أن الخلاف ليس صورياً أو لفظياً كما ذكر الشارح رحمه الله؛ لأنه هل يستوي كلام من يقول: إن الإيمان يزيد وينقص، مع كلام من يقول: إنه لا يزيد ولا ينقص ونقول: المذهبان سواء، أو الخلاف لفظي، ولا سيما وأن الزيادة والنقص جاءت في القرآن والسنة؟
فإذاً ما الذي سيفعله الذي لا يثبت الزيادة والنقص بهذه الآيات والأحاديث؟ لا بد أن يؤولها، ومن أول أحاديث الصفات أو آيات الصفات فالخلاف معه حقيقي، وكذلك من أول الآيات في الإيمان، وبالتالي كل من وضع قاعدة بعقله، وباجتهاده، وأول النصوص المخالفة لها فهو مؤول مطعون في تأويله مردود عليه، والخلاف معه حقيقي.
وبناءً على ذلك فقضية أخرى تتفرع عن هذا، بمعنى آخر: كل هذا يعني أنهم لا يجعلون الإيمان شعباً، ولا يجعلونه أجزاءً، ويردون هذه الأحاديث، أو يؤولون حديث الشعب وغيره.
وأيضاً: أن مرتكب الكبيرة لا ننظر إلى مآله في الآخرة وأنهم اتفقوا في مآله، هل اتفقا في تسميته والحكم عليه في الدنيا، أم الخلاف حقيقي؟ إنهم يرون أن مرتكب الكبيرة من زنى أو سرق: أو كبيرة اعتقادية -من ابتدع بدعة- أنه مؤمن كامل الإيمان؛ لأن عنده الإقرار باللسان والتصديق بالقلب، وما عدا ذلك لا يدخلونه، وأهل السنة والجماعة يخالفونهم ويقولون: إنه فاسق، ناقص الإيمان، لا يطلق عليه كامل الإيمان، ولا يسمونه مؤمناً بإطلاق، أي: أنهم يثبتون له مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق، فمثلاً: رجل لم يصحو من الشراب، فهل تقول: إن هذا الرجل مؤمن؟ لا يقال ذلك؛ لأن لفظ (مؤمن) من أعظم أوصاف المدح والثناء، والثناء والمدح يكون لمن أتى بحقائق الإيمان ولم يناقضها، قال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2]، وقال تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15]، وقال: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ))[المؤمنون:1-2] إلى آخره، إذاً المؤمنون لهم صفات، ولما نقول: فلان مؤمن، فهذه صفة مدح وثناء لا نعطيها هكذا بإطلاق لمن يشرب الخمر أو لمن يزني أو لمن يفجر، لكن نعطيه مطلق الإيمان الذي يكون به غير داخل في دائرة الكفر، فنقيد ونقول: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته أو معصيته، وذلك حتى لا يقول أحد: أنتم كـالخوارج تكفرونه؛ لأنه زنى أو شرب الخمر أو سرق، بل نقول: نحن لا نعتقد ذلك، ولكن نقول: إنه مؤمن بإيمانه، أي: بعقيدته بتصديقه بتوحيده، لكنه فاسق بكبيرته، أو يطلق عليه اسم تلك المعصية، فإذا قيل: شارب للخمر، أو سارق، أو زان أو كذا، أو إذا سمي باسم المعصية التي يفعلها، فنحن نعتقد أن لازم ذلك عند أهل السنة والجماعة أنه لا يكفر، ففرق بين أن يقال: فلان مشرك، وفلان شارب للخمر، إذ إننا لا نقول عليه: هذا مشرك، إذاً هو خارج عن الملة كافر، لا، وإنما نقول: هذا شارب أو زان أو فاجر أو كاذب أو مرابي، فنطلق عليه الاسم الذي يستحقه بالذنب الذي فعله وارتكبه، وإن قلنا: فلان شاب مؤمن، شاب تقي، شاب بار، شاب مخلص، فإن هذا يطلق على جنس ثالث، لكن أنتم تجعلون الجنسين سواء، أو تقولون: إذاً نقع في مذهب الخوارج ، فنقول: لا؛ لأن هذا له أوصافه وذاك له أوصافه، فلا نصفه بوصف الإيمان المطلق؛ لأنه مدح وثناء، وهذا لا يستحقه بما فيه من المعصية، وإنما يستحقه من وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك، وهناك إلزام عظيم من أهل السنة والجماعة يلزمون به المرجئة الفقهاء ، وهو: ما يتعلق بأعمال القلوب، هل تدخلونها أم لا تدخلونها؟ وهذا الإلزام قوي جداً؛ لأنهم يرون أن الخوارج خالفت في مرتكب الكبيرة الظاهرة في عمل ظاهر، أي: أنه زنى، أو سرق، أو شرب خمراً، أو فعل فعلاً ظاهراً، وهذا لو نفينا الإيمان عن صاحبه كما تقول الخوارج يكون قد كفر، إذاً فنجعل الإيمان هو ما في القلب، فنقول: أعمال القلب، وبالتالي هي في القلب فلا يترتب عليها هذا المحظور أو هذا المحذور الذي تخشونه من كلام الخوارج ، وغيره هو في داخل القلب فهل تثبتون كل أعمال القلوب؟ يعني: اليقين والإخلاص والصدق والصبر والتوكل والإخبات والإنابة والتوبة، فهل كل هذه الأعمال العظيمة تثبتونها؟ وهذا هو المأزق الذي وقعوا فيه، أو الإلزام الذي ألزمهم به أهل السنة والجماعة، فلا بد إما هذا وإما ذاك، ولذلك فالذي حصل أنهم مع الشد والجذب؛ لأن هذا المذهب دائماً، أو هذه المذاهب التوقيفية أو المذاهب التوسطية دائماً يشدها ويجذبها الطرفان، حتى في حياة الناس اليوم، فأناس وسط يحاول هذا يشدهم؛ لأنه يجدهم في أمور يوافقونه، ويحاول آخر أن يشدهم، ومع الشد والجذب انجذب أكثر الحنفية إلى الإرجاء الغالي أو أصبحوا من الغلاة؛ لأن أهل السنة والجماعة لما ألزموهم لم يستطيعوا أن يلتزموا قولهم، ولو التزموا أن اليقين والإخلاص والإنابة وأعمال القلب داخلة في الإيمان لكان من غير المعقول أن الإنسان يمتلئ قلبه بالتصديق والإيمان والإخلاص والخشية ومع ذلك يرتكب الكبيرة بجوارحه، وبالتالي يخالف ذلك، فوجدوا أن هذا فعلاً لا يستساغ، فالتزموا أن يكون عملاً واحداً، ومن أسباب القضية الأساس: ما دام أن الإيمان لا يتجزأ ولا يتركب ولا يتبعض فأول ما تحللوا من مسألة النطق فقالوا: حتى النطق ليس ركناً، وإنما مجرد علامة أو شرط، وذلك حتى يبقى شيء واحد، وهذا الشيء الواحد هو ما في القلب، لكن لما جاءوا ينظرون حتى الذي في القلب يتبعض ويتجزأ قالوا: لا والله لا نجعل هذه الأعمال، وإنما هو عمل واحد فقط، فالإيمان شيء واحد، أي: عمل واحد فقط من أعمال القلوب، ونسبوا هذا إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله رحمة واسعة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.